خاتمة: في عبقرية المكان والزمان وتواضع الإنسان

هكذا تسير بنا الرحلة الطويلة عبر التاريخ المحلي والوطني لقرية من قرى بلادنا العزيزة فتحط بنا الرحال في زمن العولمة زمن الرهانات الصعبة بل القاسية التي لا تترك للإنسان مجال تحرّك كبير للحفاظ على خصوصياته الثقافية بل وحتى للتعبير عنها، في مشهد سريالي ينقض بالجملة أسّ الحداثة التي يدّعيها ومبادئ الكونية وحقوق الإنسان التي يؤكّد عليها.

ويحظرني هنا عمل جليل لأحد كبار أساتذة الجغرافيا في مصر هو جمال حمدان الذي وضع في ثلاثيته الشهيرة عن عبقرية مصر إطارا جغرافيا ذكيّا للقراءة التاريخية من خلال مصطلح "عبقرية المكان"، وهو ما نراه ينطبق على واقع قرى الساحل عموما بما فيها الوردانين حيث تقع كما رأينا على مفترق الطرق وعلى مرتفع مشرف يضمن الخصوصية والتفتّح في آن واحد، غير أنّنا نلحظ في العشريتين الأخيرتين ضمور هذا الشعور بالانفتاح والتواصل مع المحيط القريب والبعيد وظهور بوادر انكفاء نرجعها إلى عدم الوعي بعبقرية المكان التي ذكرناها وعدم الربط الضروري بينه وبين عبقرية التاريخ نفسه حيث يكون للإنسان الدور الفاعل والإيجابي الذي يتجاوز جميع العوائق الظرفية ويعيد فتح الجسور ومسالك التواصل باستمرار في ثقة تامة بالذات وبالقدرة على الخلق والإبداع والتجاوز. وهذا ما نرى فيه أفقا يرفع من هامة الإنسان في هذه المدينة وما حولها من المدن والقرى المناضلة ويجعل من تواضعه الأصيل، تواضع الإنسان المؤمن والوطني المناضل، جذوة حية ونموذجا مرجعيّا رفيعا ونبراسا ينير له سبيل الرقي نحو آفاق طموحة خيّرة هو -تماما- جدير بها.